في أواخر القرن التاسع عشر، بدأت الجزائر تشهد تحولات عميقة في بنية المجتمع والفكر، بعد عقود من الاحتلال الفرنسي الذي سعى بكل الوسائل إلى طمس الهوية الوطنية، وتجريد الشعب من ثقافته ودينه ولغته. وبينما كانت المقاومات الشعبية المسلحة تتعرض للإخفاق، بدأت نواة جديدة من المقاومة تنمو في صمت، تعتمد على الكلمة والفكر بدلاً من السلاح، وتراهن على التعليم والصحافة والعمل الثقافي كأسس لصياغة وعي جماعي جديد. لقد مثّلت هذه الفترة مرحلة مفصلية، تمهد لما سيصبح لاحقاً مشروعاً وطنياً لتحرير الأرض والإنسان.
بدأت آنذاك تتشكل في الجزائر ملامح نهضة فكرية وثقافية جديدة، برزت كردّ فعل على الهزائم المتتالية للمقاومة المسلحة وتفاقم السياسات الاستعمارية الفرنسية الساعية إلى طمس الهوية الوطنية. بعد أن خمدت نار الثورات الشعبية، خاصة إثر فشل ثورة 1871، أدركت النخبة الجزائرية أن النضال المسلح لم يعد وحده كافياً، وأن مواجهة الاستعمار تتطلب سلاحاً من نوع آخر: الكلمة، والفكر، والتربية.
في هذا السياق، ظهرت شخصيات إصلاحية بارزة، استلهمت فكرها من حركات النهضة في المشرق العربي، لا سيما تيار الإصلاح الإسلامي الذي قاده كل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. لقد شكّل هذا التيار مرجعاً فكرياً للنخبة الجزائرية التي رأت في الدين وسيلة للتحصين ضد الذوبان الثقافي، وفي التعليم وسيلة للتحرر من الجهل والتبعية.
تزامنت هذه التحولات الداخلية مع تغير نسبي في مواقف الإدارة الاستعمارية. فقد حاول بعض الحكام الفرنسيين، مثل جول كامبون وشارل جونار، امتصاص الغضب الشعبي من خلال إصلاحات إدارية وتعليمية محدودة، لم تكن بالطبع كافية لتحقيق العدالة، لكنها أوجدت هامشاً ضيقاً استطاعت من خلاله النخبة أن تتحرك، وأن تؤسس لمبادرات فكرية وثقافية أكثر تنظيماً.
في خضم هذا الحراك، برزت الصحافة كأداة نضالية فعالة، بعد أن كانت حكراً على السلطة الاستعمارية. بدأت تظهر صحف جزائرية ناطقة بالعربية والفرنسية، ناقشت قضايا التعليم، والهوية، والواقع الاجتماعي، ووجهت نقداً لسياسات الإدماج والتهميش. مثلت هذه الصحف منابر للتعبير الحر، ومتنفساً لآراء النخبة، وأداة لخلق وعي جماهيري جديد. وفي هذا الجو، تأسست أيضاً جمعيات ثقافية ونوادٍ فكرية، كانت بمثابة مدارس غير رسمية لنشر القيم الحديثة وتعزيز روح الانتماء. استفادت هذه الجمعيات من قانون 1901 الفرنسي، الذي سمح بإنشاء جمعيات مدنية في المستعمرات، فظهرت مبادرات لعبت دوراً في التثقيف والتكوين الذاتي، كما وفّرت فضاءات للنقاش الهادئ حول قضايا الإصلاح والهوية والتغيير. ومن خلال هذه الأطر، بدأت تتشكل ملامح مشروع وطني متكامل، لا يقوم فقط على رفض الاستعمار، بل أيضاً على بناء مجتمع متعلّم ومستنير، قادر على تصور مستقبل بديل.
لقد أعاد هذا التحول الثقافي رسم العلاقة بين الجزائري والواقع الاستعماري، وفتح الباب أمام نشوء وعي سياسي جماعي سيؤسس لاحقاً للحركات الوطنية المنظمة. لم يكن الأمر مجرد انفتاح فكري، بل كان مقاومة حقيقية، سلاحها العقل، وميادينها الصحافة والجمعيات والتعليم. ومن هنا، يمكن القول إن تلك الفترة لم تكن مرحلة خضوع مطلق، بل كانت مخاضاً لنهضة ثقافية صامتة لكنها عميقة، شكلت أساساً للهوية الجزائرية الحديثة، ووضعت اللبنة الأولى في مسار طويل نحو التحرر.
إن العودة إلى هذه المرحلة من تاريخ الجزائر ليست مجرد استذكار للماضي، بل هي محاولة لفهم الجذور العميقة للوعي الوطني، وكيف وُلد في أحلك ظروف القمع والطمس الثقافي. ففي تلك اللحظة التاريخية، أدرك الجزائريون أن المقاومة لا تكون فقط بالبندقية، بل أيضاً بالقلم، وبالمدرسة، وبالوعي الجمعي الذي لا يستطيع أي استعمار أن يقمعه إلى الأبد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق