السبت، 10 يونيو 2023

من الطهطاوي إلى محمد عبده: كيف بدأ التنوير في العالم العربي؟

 لم يكن مصطلح التنوير مألوفًا في الثقافة العربية حتى نهايات القرن التاسع عشر، رغم أن جذور هذا المفهوم قد بدأت تتغلغل في الوعي العربي مع الصدمة الحضارية التي أحدثتها الحملة الفرنسية على مصر عام 1798. فبينما حمل نابليون أسلحة لم يألفها المصريون، رافقه أيضًا مئات العلماء الذين أسسوا المجمع العلمي المصري على غرار النموذج الفرنسي، ما فتح أعين المصريين، خاصة علماء الأزهر، على مدى الفجوة المعرفية والعلمية بينهم وبين الغرب.

في هذا السياق، بدأ مفكرون مستنيرون كرفاعة الطهطاوي بدراسة التجربة الغربية والتمعن في أصولها الفكرية، لا سيما ما تعلق منها بالحريات، والتعليم، والمواطنة، والقانون، والمساواة. وقد مثّلت كتاباته بداية حقيقية لحركة إصلاحية عقلانية انبثقت من صلب الثقافة الإسلامية دون أن تتنكر لها. وتبعه مفكرون عرب من مختلف الأقطار، انكبّوا على البحث في وسائل النهضة العربية، سواء من خلال الليبرالية السياسية أو بالاعتماد على الدين كأساس للتنوير، كما رأينا مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.

كان الشيخ محمد عبده (1849–1905) من أبرز رموز هذه النهضة الإصلاحية الإسلامية، وقد اتخذ من العقل أساسًا لفهم الدين وتطبيق الشريعة. خاض معارك فكرية ضد الجمود والتقليد الأعمى، ورفض أن يُقدَّم النص الديني على العقل في حالة التعارض، مشددًا على أن مقاصد الشريعة لا تتحقق إلا بإعمال الفكر والوجدان الصادق. لقد دعا إلى التمييز بين واجب طاعة الحاكم وحق الأمة في العدالة، مؤكدًا على أن الحاكم بشر يخطئ، ولا يُردعه إلا وعي الأمة.

واجه محمد عبده مقاومة شرسة من رفاقه في الأزهر، واتُّهم بالمروق لمجرد دعوته إلى تدريس الجغرافيا أو مقدمة ابن خلدون، أو حتى لتأييده تعلم العلوم الطبيعية دون قيود. وأمام سطوة الفقهاء التقليديين الذين أغلقوا باب الاجتهاد، لم يتوان عن مواجهتهم، بل واعتبر أن من واجب العلماء استخدام العقل في فهم الدين بدل الاغتراف الأعمى من التراث.

هذه الدعوات لم تكن معزولة عن السياق العالمي، فقد ساهمت الحملة الفرنسية في زعزعة المفاهيم السائدة حول الدين والسياسة والتعليم، وأثارت تساؤلات لدى المثقفين العرب حول أسباب تقدم الغرب وتخلف الشرق. ومع عودة البعثات التعليمية من أوروبا، بدأت ملامح الإصلاح تتضح أكثر، خصوصًا مع مشاريع محمد علي باشا، الذي أرسل رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا ليكون دليلًا ثقافيًا للمبتعثين، فتحوّل إلى رائد حقيقي للوعي الحديث.

وبينما كان الطهطاوي يمجّد حرية الفكر، فإن محمد عبده حمل مشعل التحديث الديني من داخل المؤسسة الدينية نفسها، وسعى لتحريرها من سلطة الخرافة والخوف والجمود. لقد دعا إلى إعادة النظر في علاقة العقل بالقلب، رافضًا الفصل المصطنع بين الوجدان والفكر، مؤكدا أن ما يُدرك بالحس الباطني (الوجدان) لا يتعارض مع البرهان العقلي بل يُكمله.

وهكذا، وجد التنوير العربي طريقه إلى الوعي الجمعي، ليس كحركة منبتّة عن الدين، بل كامتداد له، مستنيرًا بالعقل، ومستندًا إلى مقاصد الشريعة، وساعيًا إلى بناء وطن يحترم حقوق مواطنيه. من الطهطاوي إلى عبده، ومن الأفغاني إلى شبل شميل، شكّلت هذه الأسماء تيارًا فكريًا متجددًا حمل راية التحديث، ورفض أن يكون الدين عائقًا أمام التقدم، بل أساسًا له.

واليوم، نحن أحوج ما نكون إلى استلهام هذه الروح الإصلاحية، وإلى إعادة الاعتبار للعقل والعلم كمرجعية في مواجهة الجمود، لكي نصوغ مستقبلًا عربيًا جديدًا أكثر عدالة ووعيًا، يحقق مصلحة الإنسان ويصون كرامته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

QUALITE ARCHITECTURALE (2): QUAND LA MAITRISE D’OUVRAGE PUBLIQUE SABOTE L’ARCHITECTURE

Dans les écoles d’architecture, on apprend que l’architecte occupe une place centrale. Il est censé garantir la qualité architecturale, coor...