الأربعاء، 4 مارس 2020

عندما يصبح الصمتُ عبئًا لا يُحتمل

في زوايا مقاهي الجزائر العتيقة، حيث تختلط رائحة البن برائحة التاريخ، يجلس الرجال يحملون في عيونهم ما لا يجرؤون على النطق به. صمتٌ ثقيل يلف المجالس، صمتٌ لم يعد فضيلة بل تحول إلى سجانٍ غير مرئي. إنه صمتٌ يخفي تحت سطحه براكين من المشاعر المكبوتة، أحلاماً مدفونة، وآلاماً لا تجد من يسمعها.

في مجتمعنا، يُعتبر البوح بالضعف عاراً والاعتران بالألم هزيمة، صرنا نعيش حالة من الانفصام العاطفي الخطير. نبتسم في العلن ونبكي في السر، نقدم صورة القوة للعالم بينما نحمل في الداخل طفلاً مجروحاً يصرخ طلباً للعون. هذا التناقض لم يعد مقبولاً، فقد بدأ يظهر في إحصائيات الاكتئاب الخفي، في ارتفاع معدلات الطلاق الصامت، في تلك النظرات الفارغة التي نراها في وسائل النقل العامة كل صباح.

لقد نسينا حكمة أجدادنا الذين كانوا يخصصون مجالس للفضفضة، جلسات السمر التي تتحول إلى جلسات علاج جماعي. لم نعد نتذكر أن "المشاركة تخفف الهم" كما قالوا. بدلاً من ذلك، اخترعنا ألف طريقة للهروب من مواجهة ذواتنا: من الإدمان على العمل إلى الهوس بالتكنولوجيا، من الانغماس في الشائعات إلى تعاطي المهدئات دون وصفة طبية.

لكن الأجساد لا تكذب. فها هي المستشفيات تعج بحالات "الآلام الوظيفية" التي لا سبب عضوي لها، وها هي العيادات النفسية تشهد طوابير من المرضى الذين يبحثون عن تفسير لقلقهم الذي لا مبرر له. إنها أجسادنا تثور ضد صمتنا، تنقل إلينا رسائل الاستغاثة حين نرفض الاستماع إلى كلماتنا.

ليس المطلوب أن نتحول إلى مجتمع درامي يذرف الدموع في كل مناسبة، ولا أن ننشر أسرارنا على الملأ. لكننا بحاجة إلى إعادة اكتشاف فنون الحوار الصادق مع الذات، إلى خلق مساحات آمنة للبوح دون خوف من الحكم المسبق، إلى تعلم لغة جديدة تتجاوز ثنائية "الصمود أو الانهيار".

في اليابان، قيل لي أن هناك تقليدا قديما، حيث يكتب الناس همومهم على أوراق ثم يحرقونها كنوع من التطهير الرمزي. ربما نحتاج إلى طقوس مماثلة، إلى جسر بين صمتنا المخيف وصراخنا المدوي. لأن الصمت حين يطول أكثر من اللازم، يتحول من سكن إلى مقبرة.

لكن الحقيقة التي يجب أن نواجهها، هي أن الإنسان ليس حجراً صامتاً، بل كائنٌ من لحم ودم يحتاج إلى أن يُسمع، أن يُفهم، أن يُحتضن. قد نكون آخر جيل يكبت مشاعره، أو أول جيل يتعلم التعبير عنها بذكاء. 

الخيار بين الصمت الذي يقتل والكلام الذي يحرر، هو خيارٌ علينا أن نتخذه قبل فوات الأوان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

QUALITE ARCHITECTURALE (2): QUAND LA MAITRISE D’OUVRAGE PUBLIQUE SABOTE L’ARCHITECTURE

Dans les écoles d’architecture, on apprend que l’architecte occupe une place centrale. Il est censé garantir la qualité architecturale, coor...