يعيش العقل العربي المعاصر أزمة عميقة تعود جذورها إلى نمط تفكير تقليدي يقوم على التسليم واليقينيات الموروثة، لا على التساؤل والنقد. هذا النمط من التفكير لا يُنتج معرفة، بل يعيد إنتاج ما هو مألوف ومأثور، في بيئة تغيب عنها المراجعة الذاتية ويُخنق فيها التفكير الحر. ولذلك، يعاني الإنسان العربي من حالة اغتراب عن العصر، فهو عاجز عن التكيّف مع التحولات العالمية، ويخشى التغيير لأنه يهدد البنى الذهنية التي تربى عليها منذ الطفولة.
المشكلة ليست في أن الإنسان العربي يفتقد التدين، بل في أن الدين يُوظف خارج سياقه الروحي والأخلاقي، ليصبح أداة للهيمنة والسيطرة والتفريق. ففي الوقت الذي نتصدر فيه مؤشرات التدين، نتراجع في مجالات الأخلاق، والبحث العلمي، والحريات. وهذا التناقض الفجّ يكشف خللاً بنيويًا في فهمنا للدين ودوره، ويؤكد أن غياب العلمانية والفكر المدني هو أحد أبرز أسباب تعثرنا الحضاري.
لقد تربينا على الاعتقاد بأن ما ورثناه من لغة، ودين، ومكان، هو الأفضل، دون أن نملك الجرأة على مساءلته. لم نختر أوطاننا ولا أدياننا، لكنها تحوّلت بفعل التربية والتلقين إلى مسلمات مطلقة، نرفض التشكيك فيها أو حتى التفكير بها من منظور نقدي. وبهذا، تشكلت ذهنية ترى الحقيقة واحدة ومطلقة، ولا تعترف بالاختلاف، بل تسعى لفرض قناعاتها على الآخرين تحت عناوين الإلزام، أو حتى الإكراه. وتتكرس هذه الذهنية من خلال منظومة فكرية محصنة، تحيطها المحظورات وتمنع الاقتراب منها. فالنصوص والتقاليد تُقدّس وتُخرج من دائرة التساؤل، مما يحول دون نشوء عقل نقدي حرّ. هكذا تحولت العقول إلى مستودعات للمعرفة الساكنة، دون وعي أو تفكر. وضاع مع الوقت الحس التحليلي، وغابت القدرة على التأمل والاستقلال في الرأي، جيلاً بعد جيل.
أضف إلى ذلك أن الخلط بين الدين والسياسة لم يثمر سوى الانقسام، والاستبداد، وتعطيل إمكانيات النهوض. فالوطن لا يستقيم إلا حين تكون القوانين مرجعًا أعلى من الأهواء الدينية، وحين يتمتع كل مواطن بحريته في الاعتقاد، دون وصاية أو تمييز. فالسياسة حين تُستعمل لتدعيم سلطة دينية أو طائفية تفقد شرعيتها، وتتحول الدولة من كيان جامع إلى أداة تفريق.
في ظل هذا الواقع، نشأ إنسان مقيد، عاجز عن التحرر من إرث الخوف والطاعة، يعيش حالة من الإحباط والعدوانية، تسرق منه حيويته وقدرته على الإبداع. بينما العالم يتقدم بالتفكير الحر، والتساؤل، والتجريب، بقي إنساننا محاصراً بهاجس التراث، يعيش الماضي وكأنه هو المستقبل، ويخشى الخروج من دائرة المألوف.
علينا أن نعيد النظر في مفاهيمنا تجاه الاختلاف والتعدد، لا بوصفها تهديدًا، بل كمصدر للثراء الإنساني. لأن بناء مجتمع حر يبدأ ببناء الإنسان المواطن، لا الفرد التابع، وينطلق من التربية على التفكير، والنقاش، والانفتاح على الآخر المختلف. نحن بحاجة إلى ثورة فكرية تبدأ من الاعتراف بأننا لسنا مركز الكون، ولا خير أمة إلا بقدر ما نعمل ونفكر وننتج. فكل قفزة حضارية في التاريخ البشري بدأت حين تجرأ الإنسان على كسر القيود التي فرضها عليه التقليد، وخرج من كهف التكرار إلى فضاء العقل. الشعوب التي تنتظر المعجزات لا تصنع المستقبل، بل تصنعه تلك التي تحترم العقل وتكرّم الحرية وتؤمن بجدوى العمل.
المجتمع الذي يرفض الحرية، ويعادي الفكر النقدي، لن يُنتج مواطنين أحرارًا، بل مجرد أتباع خائفين، ومنافقين، ومُهمشين. أما الأوطان التي تحاصر الأفكار، وتجرّم التفكير، وتفرض ثقافة القمع، فهي تقتل في الإنسان إمكانيته على الحلم، وتخلق بيئة تنتج الجمود والاضمحلال.
ما يهيمن على ثقافتنا اليوم هو خطاب طائفي، يُعلِي شأن الانتماء المذهبي والعشائري على حساب القيم المشتركة، ويبرر الظلم إن جاء من "أبناء جلدتنا"، ويخوّن التفكير الحر، ويختزل المرأة إلى عورة، والحريات إلى رذيلة. إنها ثقافة خافت من نقد ذاتها، فساهمت في إنتاج الجهل والتطرف، كل ذلك نتيجة تحالف الدولة مع جهة دينية دون أخرى، ففقدت العدالة معناها، وتحولت الدولة إلى أداة فرض أيديولوجي، لا حامية لحقوق الجميع.
الطريق ما يزال طويلاً، وما تزال أمامنا معارك فكرية وثقافية حاسمة لتجاوز ماضٍ يقيد الحاضر. فالوطن ليس فقط الأرض، بل هو مشروع مستمر من التراكم والتطور والمشاركة. وما يجمع أبناءه ليس الدين أو الطائفة أو اللغة، بل الإيمان بالمواطنة، والعدالة، والكرامة، والانتماء إلى الإنسانية قبل كل شيء. إذ نحن لسنا محور الكون، ولسنا خير أمة إلا بقدر ما نفكر ونبدع ونتجاوز المألوف. إذ أن كل إنجاز في تاريخ البشرية بدأ حين رفض الإنسان ما لُقّن به، وحين كسر قيود العادات والتقاليد. لأن المستقبل لا تصنعه الشعوب التي تكتفي بالانتظار والدعاء، بل تصنعه تلك التي تعمل وتفكر وتبدع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق