في الأيام القليلة الماضية، شهد العالم حدثاً إنسانياً استثنائياً لم يُنسَ منذ وقوعه: إنقاذ 33 عاملاً علقوا تحت الأرض في منجم سان خوسيه بدولة تشيلي بعد أن ظلوا مدفونين على عمق 750 متراً لمدة 69 يوماً. كان المشهد مزيجاً من التوتر والانتظار، ثم تحول تدريجياً إلى احتفاء بالحياة وبقيمة الإنسان، حتى أصبح واحداً من أبرز الأحداث الإنسانية التي شهدها القرن الحادي والعشرون.
للأسف، لم يكن الاهتمام العربي بهذا الحدث كبيراً، بل يمكن القول إنه كاد يكون معدومًا. بينما كانت القنوات الغربية تنقل الحدث لحظة بلحظة، وتخصص له ساعات طويلة من البث المباشر، والتغطية المكثفة من مئات الصحفيين والمصورين، فإن القنوات العربية لم تعيره سوى اهتماماً رمزياً، إن وُجد أصلاً.
درس إنساني من دولة صغيرة
ورغم ذلك، أتمنى أن يكون كثير من العرب قد شاهد هذا الحدث بنفسه، لأن ما فعلته تشيلي ليس فقط عملاً تقنياً أو لوجستياً ناجحاً، بل هو درس حقيقي في معنى الإنسانية. رئيس دولة ترك مكتبه ليقف بجانب عمال بسطاء. وزير المناجم لم ينم الليالي الطويلة، وأجهزة طبية وتقنية وكوادر بشرية تعبئة كلها لإنقاذ حياة 33 شخصاً، لا يملكون ثروات ولا سلطات، بل هم مجرد عمال يبحثون عن قوت يومهم.
المقارنة المريرة.. هل سيتغير الحال؟
هذا المشهد جعلني أتساءل، كما تسأل غيري من القراء:
ماذا لو وقع مثل هذا الحادث عندنا؟ ماذا لو انهار منجم عربي على 33 عاملاً عربياً؟ ما الذي سيحدث؟ هل ستتحرك الدولة بنفس السرعة والفعالية؟ هل سيتحول البحث عنهم إلى قضية وطنية تُعبّأ لها كل الإمكانات؟ أم سنكتفي بخبر عابر في زاوية ضيقة من نشرة الأخبار؟
الحقيقة المؤلمة هي أننا نعرف الإجابات سلفاً، وهذا ما يجعل الألم أكبر. نحن لا نعيش فقط حالة تخلف مادي أو تقني، بل نعاني من عقدة داخلية، عقدة النقص أمام دول أخرى، تجعلنا نقارن باستمرار بين ما نحن فيه وما يعيشه الآخرون.
الإعلام بين الإنسانية والتجارة
كان يمكن لهذا الحدث أن يمر مرور الكرام، لكن الإعلام الغربي اختار أن يجعله قصة إنسانية عالمية. "بي بي سي" أوفدت فريقاً من 25 شخصاً لتغطية الحدث. "سي إن إن" و"سكاي نيوز" علقتا برامجهما وأخبارها، لتُظهر للعالم كيف يمكن للإعلام أن يخدم الإنسانية قبل أن يخدم الربح أو السياسة.
وهنا لا أريد أن أتهم الغرب بالاستغلال أو التفوق الزائف، بل أود أن أسأل سؤالاً بسيطاً:
إذا كانت هذه القصة تحولت إلى فيلم أو كتاب، فكم سيكون بيعه؟ إذا عُرضت مشاهد الإنقاذ على شاشات السينما، فكم من دمعة ستسقط؟
هذا الحدث يستحق أن يُسجل في ذاكرة البشرية، لأنه يحمل كل مقومات القصة الملهمة: المعاناة، الصبر، الأمل، والإرادة.
رسالة إلى الذات
وختاماً، أقول:
- دعونا نتوقف عن البحث عن مؤامرات في كل حدث.
- دعونا ننظر إلى أنفسنا، ونتساءل لماذا لا نملك هذا النوع من الردود؟
- لماذا لا تتحول مآسينا إلى قصص نجاح؟
- لماذا لا يصبح الإنسان في مجتمعاتنا محور الاهتمام حقاً، وليس شعاراً يُرفع وقت الكارثة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق