جدارٌ آخر ينهار على شواطئ البحر الأبيض المتوسط. ليس جداراً مرئياً، بل هو ذلك الحاجز غير المرئي الذي ظل لعقود من الزمن الركيزة الأساسية لنظم حكم ضعيفة الشرعية. هذا الجدار هو جدار الخوف.
خوف الشعوب من تعسّفٍ منهجي في كل مستويات السلطة، ابتداءً من أجهزة الشرطة والقضاء التي تحولت إلى أدوات قمعية لا ترحم، وتُحطّم كل من يجرؤ على المطالبة بحقوقه. ثم خوفها من عنف الدولة المُفرط، الذي يبقى رهناً لإرادة دائرة محدودة لكنها قوية ومؤمنة بإفلاتها من العقاب. وخوفٌ آخر يبدو تناقضياً، يتمثل في فراغ سلطة مفاجئ وشامل، وانعدام وجود بدائل سياسية حقيقية، ما يجعل الأنظمة الحالية أسوأ الخيارات مقارنة بأي خيارات أخرى.
هذا الحاجز انهار أولاً في تونس، تحت ضغط شعب ظل مُهاناً لسنوات طويلة، ثم استعاد فجأة إرادته ورفض أن يظل أسيراً لمصير مفروض عليه. وفي 28 يناير، تشقّق الجدار ذاته في شوارع القاهرة والإسكندرية ومحافظة السويس، ليثبت بشكل قاطع أن الشعب المصري لم يكن ولن يكون أسيراً للسلبية التي حاولوا دائماً نسبتها إليه.
كفى أربعة أيام فقط من الاحتجاجات، نُظّمت بسرعة وبشكل عفوي من قبل مجموعة صغيرة من المعارضين تحفيزاً منهم بالتجربة التونسية، لكسر حالة الاستقرار الزائف التي كانت تسيطر على عملاق العالم العربي، مصر، التي تحولت عبر سنين حكم مبارك الطويلة إلى واحدة من "الدول المريضة" في الشرق الأوسط.
وبما أن مصر كانت دوماً، قبل أن تُصيبها هذه حالة الخمول، مصدر الصوت العربي الحقيقي، فإن الزلزال الذي يهز ضفاف النيل اليوم يتجاوز بكثير حدود الثورة التونسية. حتى بات من الممكن القول، دون مبالغة كبيرة، إن الخوف قد انتقل إلى المعسكر الآخر.
لم يعد الخوف يهدّد الشعوب، بل أصبح يؤرق الأنظمة التي طالما غرّبت شعوبها وأهانتها، بينما كانت تختبئ وراء شعارات توجّهها نحو أعداء خارجيين مُصطنَعين، لتغطّي على هوسها بالتمسك بالسلطة بأي ثمن. الآن، هي تلك الأنظمة، سواء شرقاً أو غرباً من القاهرة، التي يجب أن تقلق بشأن بقائها، وعن المعادلة المستحيلة التي تحاول تقديم الإصلاح بعد عقود من القمع الممنهج، والذي كان يُبرر دائماً بذريعة أن أي تغيير بسيط قد يؤدي إلى الفوضى.
بلدان عربيان قدّما بالفعل دليلاً قاطعاً على زيف استراتيجية الخوف هذه، إذ لم تفلح هذه الاستراتيجية في منع ثورتين. وعلى الرغم من أن الديمقراطيات الغربية ما تزال تتذكر بمرارة كيف تحول حليفها إيران إلى عدو في عام 1979، إلا عليها أن تعترف اليوم بأن دعمها لهذه الأنظمة القمعية لم يعد مجدياً، لأنها في النهاية لم تستطع الوقوف في وجه كتابة التاريخ.
وفي ساعات قليلة فقط، في 28 يناير، أجاب المصريون بالنفي على تساؤل حول استثنائية التجربة التونسية. ومن الآن فصاعداً، من المحتمل جداً أنهم لن يكونوا وحدهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق