في خضم العقود الطويلة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تبلورت العديد من الاستراتيجيات السياسية التي تبنّاها صانعو القرار الفلسطيني، سواء في إطار منظمة التحرير الفلسطينية أو السلطة الوطنية، بدعوى حماية الشعب الفلسطيني وتقليل حجم الخسائر. من بين هذه السياسات ما يُعرف بـ"سحب الذرائع" من إسرائيل، وهي استراتيجية تقوم على تجنّب أي سلوك قد تستخدمه إسرائيل كمبرر لشنّ عدوان أو فرض عقوبات جماعية أو إجراءات عسكرية. غير أن هذه الفرضية، التي تبدو عقلانية من حيث الشكل، قد أثبتت على مدى الزمن أنها قاصرة، بل في بعض الأحيان، مضلّلة. فالتجربة التاريخية الممتدة منذ سبعينيات القرن الماضي، مروراً باتفاق أوسلو، ووصولاً إلى ما بعد انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005، تشير إلى أن إسرائيل لا تحتاج إلى ذرائع كي تمارس سياسات التهجير والاستيطان والعدوان.
من أبرز المحطات التي تكشف زيف هذه الاستراتيجية ما حدث بعد خروج منظمة التحرير من بيروت عام 1982. آنذاك، قيل إن خروج المقاتلين سيُفضي إلى تهدئة، وإنهاء الحصار الإسرائيلي، وخلق مناخ يسمح بحلول سياسية. لكن، كما توضح وثائق ودراسات متخصصة، استمرت آلة الحرب الإسرائيلية في لبنان لسنوات تالية، وارتُكبت مجازر مثل صبرا وشاتيلا وسط صمت دولي، وبدون أي "ذرائع" واضحة. هذا النمط تكرر في أماكن أخرى: فبعد أن أوقفت السلطة الفلسطينية الانتفاضة الثانية، وبدأت سياسة التنسيق الأمني مع إسرائيل، لم تتوقف سياسة الاستيطان، بل تسارعت. وبحسب تقارير "الشبكة الفلسطينية للسياسات"، فإن إسرائيل استغلت هذا التنسيق لإعادة ترتيب أولوياتها الأمنية، دون أن تُقدِّم أي تنازل سياسي أو تُظهر بوادر حقيقية لإنهاء الاحتلال، مما جعل السلطة تبدو كأنها تُدير شؤون الشعب تحت الاحتلال، لا أنها تقاومه.
في هذا السياق، يصبح سؤال "متى كانت مطاوعة الغازي أماناً للمغزو؟" سؤالاً أخلاقياً قبل أن يكون سياسياً. الباحث الفلسطيني ساري حنفي، في مقابلة له نُشرت في مجلة Global Dialogue عام 2024، أشار إلى أن كثيراً من سياسات "التهدئة" و"ضبط النفس" تحوّلت إلى أدوات لإدارة الاحتلال بدلاً من تفكيكه. ويرى حنفي أن أحد أخطر آثار هذه السياسات هو تقليص الوعي الجمعي الفلسطيني بالمشروع الصهيوني في بعده الكولونيالي، وتحويل الصراع إلى مجرد خلاف على شروط حياة يومية بدلاً من كونه صراعاً على الأرض والهوية والسيادة. في هذا الإطار، فإن "مطاوعة الغازي" لا تمنح الأمان، بل تمنحه شرعية ضمنية، وتُعيد تشكيل دور الضحية ليصبح مشاركاً في إخضاع نفسه.
وفي تقرير مهم صدر عن منظمة B’Tselem الإسرائيلية لحقوق الإنسان، تم وصف إسرائيل بشكل واضح بأنها تمارس نظام فصل عنصري ممنهج ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وفي الداخل أيضاً. هذا التقرير، الذي استند إلى عشرات الوقائع الموثقة، يُظهر كيف أن النظام الإسرائيلي لا يتصرف بردة فعل على "ذرائع"، بل يتحرك وفق بنية قانونية وسياسية تهدف إلى ضمان التفوق اليهودي على كامل الأرض الممتدة من النهر إلى البحر. فهل يعقل، أمام هذه الهيكلية الاستعمارية المحكمة، أن يجدي نفعاً تفادي "الذرائع" أو تقديم التنازلات؟ الواقع يقول العكس.
ما يبدو اليوم أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى هو إعادة النظر في الفرضيات التي حكمت السياسات الفلسطينية خلال العقود الثلاثة الماضية. إن البحث عن الحماية عبر إرضاء المعتدي أو محاولة "كسب تعاطفه" من خلال خفض سقف الخطاب أو الكف عن المقاومة لم يعد يُنتج إلا مزيداً من القبول الدولي بالوضع القائم، بل وبناء نموذج فلسطيني يتم تسويقه كـ"الوجه الحضاري" للاحتلال. إن تجارب غزة، والقدس، والضفة الغربية، تؤكد أن إسرائيل لا تتصرف برد فعل على ما يفعله الفلسطينيون، بل تتحرك ضمن مشروع توسّعي واضح المعالم. وبالتالي، فإن أية سياسة لا تتعامل مع هذا المشروع بوصفه استعمارياً، ولا تقاومه بوصفه كذلك، تبقى سياسة محكومة بالفشل، مهما كانت نواياها "براغماتية".
إنه من المؤسف أن تكون السياسات التي رُوِّج لها طويلاً بوصفها واقعية هي ذاتها التي ساهمت في إدامة الواقع الكارثي. ولعل أخطر ما في هذه السياسات هو أنها تُروّج وكأنها السبيل الوحيد للنجاة، في حين أنها لم تفلح حتى في تقليل عدد الشهداء، أو وقف عمليات الهدم، أو حماية القدس من التهويد. فهل آن الأوان لإعادة النظر في منطق "سحب الذرائع" و"مطاوعة الغازي"، قبل أن نصبح جميعاً أسرى لحسن النوايا السيئة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق